كتب البرلماني اليمني احمد سيف حاشد مقال يتحدث فيه عن توقفة عن تعاطي القات لاسباب مالية
نص المقال
كان قرار مقاطعتي للقات مائة يوم في البداية لأسباب اقتصادية، وظروف معيشية بدت في بعضها خانقة، ورغم حصول عدة انفراجات في هذا الجانب، خلال تلك المدة، إلا أنني مضيتُ في اكمال ما كنت قد بدأته، وعقدتُ العزم عليه، ونجحتُ في أن أكون بمستوى ما اتخذته من قرار، وبمستوى ما فيه من تحدّي، واختبار عصامية أزعم إنني كنت بمستواها، أو هي دوني، أو هكذا أعتقد.
أن لا تخزِّن في اليمن ليس بالأمر السهل، لاسيما إن كنتَ وجاهة اجتماعية بوجه ما.. كما أن جهاد النفس محل صعوبة، أو على الأقل لا يخلوا من معاناة، في أمر تكتشف أنك أدمنته، وأعتدتَ عليه.. تشعر حال مقاطعته بوحدتك وغربتك في مجتمع لا يجتمع في الغالب والأعم إلا بالقات والمقيل.
مجتمع يؤثر الشخص فيه أن يجوع على أن لا يخزّن أو يقطع القات.. تشعر بعزلة يضربها عليك أفراده وجماعاته.. تشعر أن الحرب عليك شعواء، وأن المحيط يضيّق عليك كل فساح ومتسع.. تحسُ على نحو كثيف بالحصار والاختناق إلى حد بعيد.
شعرتُ أنني مللتُ نفسي، وأن الوقت قد صار هو الآخر يملّني.. حاولت أتعلم الرقص لطرد السأم والملل وتخفيف الوزن، ولكن دون فائدة.. حاولت أتعلم الرقص مع صديقي عبد الجبار الحاج، فكان كل من حولنا يضحك علينا، حتّى أصابتنا عين حامية.. لا بأس هنا أن تبتسم وتضحك.. هذا ما أفعله وأنا أتذكر رقصنا الذي كان يشبه رقص الديوك
***
لكسر حالة الملل والسأم، حاولتُ أن أرافق أصدقائي المخزنين في مقايلهم، وفي مقايل بعض الأصدقاء، ومعي ثلاجة صغيرة اشتريتها لهذا الغرض أملأها بالشاهي المترع بالجوز والهيل والقرنفل، لأقضي معهم بيقظة بعض وقت المقيل، ولكن بدا لي الأمر بائخاً، وربما مُستهجناً من قبل البعض.
كان قبول أصدقائي لقراري الحاسم لا يخلو من عدم الرضى، بل صارحني أحدهم بأنني خُربت بعد قراري هذا.. كنتُ أشعر أنهم يتجشمون قراراً فرضته على نفسي عنوة، وفرضت نتائجه عليهم أيضاً باستثناء صديقين، أحدهم زاد على المائة يوم ما شاء الله، وهو القاضي أحمد الخُبّي، فيما صديقي أنس دماج القباطي ماثلني بقرار المقاطعة للقات مائة يوم، وتعلّم معي الرقص أيضاً دون أن نجيد ما تعلمناه، ولكن أحسستُ أن ما تعلمته برغم عدمه أو محدوديته التي لا تستحق ذِكراً ولا قياساً كان حاضراً في تحديه القوي يوم احتفالي وحيداً بثورة ٢٦ سبتمبر في ساحة مجلس النواب اليمني بالعاصمة صنعاء عام ٢٠٢١
تلك الرقصة التي كانت احياء لذكرى الثورة، واحتجاجاً على عدم قيام مجلس النواب وسلطة صنعاء بالإحتفال بالمناسبة، رغم انهما كانا قد احتفلا بقاعة المجلس بمناسبات اخرى لا تمت بصلة بالثورة والجمهورية؛ وقد راجت تلك الرقصة في وسائل التواصل الإجتماعي، وكانت بحضور وتصوير رفيقي الحميم نبيل الحسام.
وفي إطار محاولتي كسر عزلتي قررتُ مع أصدقائي حضور مقيل بمعيتهم لدى مجلس أستاذنا د. سيف العسلي وهو وزير مالية سابق.. كان جميع الحاضرين بمستوى عالٍ من اليقظة والتوقد والحضور، فيما كنتُ ثقيلاً وحاسراً، وغاطساً في خمول عميق.. كنتُ أبلهاً حتّى في تصنّع الحضور.
أشاهد زملائي شعلة من اليقظه والتفاعل والتقاط كل شاردة وواردة، فيما كنتُ في زاويتي أخوض معاركي بانعزالية مع جحافل النعاس، أحاول أستعين بالهيل والقرنفل لأشحذ بعض يقظة، ولكن دون جدوى.. كنتُ أفرك عيوني وأقرص جفوني، وأدعك وجهي بيدي، لأنفض عنه نعاسي، فأفشل فشلاً ذريعاً.. أحاول أن أعض بأسناني على أصبعي حتّى تكاد تنفطر من عظتي أو تهرُّ دماً منها؛ لأقاوم نعاسي دون نجاح أو فائدة.
كان النعاس يداهمني أحياناً ويغمرني مراراً حتى اغيب في بحر عميق، ولا أطفوا على سطحه إلا بصعوبة.. وأحياناً أجد أمواجه تعبثُ بي كعشب في شاطئه، خارت قواه تحت صفعات وضربات أمواجه المتلاطمة والمتعاقبة بتكرار ذهاب وإياب.. مستسلم في حراكه وحركته، منتظراً انتهاء الوقت وموعد الجزر والرواح.. ثم ألعن نفسي على ما بديتُ فيه من حال غير مُرْضٍ، وقد أحس بنعاسي جميع من في المقيل.. ربّما تحدثوا في نفوسهم عن بؤس حالي وبما يضاعف حرجي وخجلي، أو تندروا في نفوسهم بفكاهات تثير القهقه على من يستحق الرثاء.. فما يُعلن ويقال ربما أهون وأرحم مما يدور ويُعتمل في طي وكتمان.
كنتُ أحاول أقضي قليلاً من الوقت في محاولة كسر عزلتي، وأذهب لمقيل صديقي محمد المقالح القريب من مكان إقامتي، ولكنني قاطعته بعد أن شبّه حالي في المقيل بالعريان وسط مُكتسين، فيما عبد الفتاح حيدرة شبّه حالي بالمخبر وسط جمع المقيل، وثالث شبَّه الحال بشيخ يصّلي وسط بار يكتظ بالسكارى الثملين؛ فقررتُ بدافع من ألم مقاطعة مقيله حتّى تمر المائة يوم كاملة دون نقصان.
***
شعرتُ أيضاً أن بعض رفاقي تضرروا إلى حد بعيد، وربما تفرقوا قليلاً، وتشتت شملهم، وأول مرة تشهد علاقتي بأحدهم قطيعة كادت تطول ولا تعود.. اكتشفتُ أن قرار مقاطعة القات في اليمن ليس سهلاً، وليس مستطاباً، وكان رفاقي وأصدقائي يستعجلون مرور المائة يوم، وما لقاء يمر إلا ويسألون عمّا بقي من أيام مقاطعة القات.. شعرتُ أن القرار قد نال منهم أكثر مما نال منّي.
حدث لدى أصدقائي هايل القاعدي وعبد الوهاب قطران ونجيب الحاج خطأ في حساب المائة يوم، فاستعجلوها قبل أن تنتهي بثلاث أيام، وفاجئوني بتجهيز احتفالية انقضى المائة يوم قبل انقضاءها بثلاث أيام، فاحتفلنا مقدماً دون أن أعفي نفسي من استكمال المائة يوم بالكمال والتمام دون اختلال أو نقصان.
ومع ذلك كانت المائة يوم فترة إنجاز في حياتي لم أتعلم فيها فقط الرقص بمستوى محدود أجمع فيها ثلاث رقصات في واحدة مع خطوات التنظيم العسكرية، رقصة أختلط فيها حابل ونابل، ولكن تعلمتُ أيضاً العصامية ومجاهدة النفس، وأنجزتُ كتابة ثلاثة وستين حلقة من كتاب، وهذه حلقة واحدة منها، وما كنتُ لأنجز هذا لولا مقاطعة القات، والصرامة المتشددة في تنفيذ القرار.. إنه قرار المائة يوم مقاطعة للقات.
كنت قد بدأتُ تنفيذ قرار مقاطعة القات في 20 اكتوبر 2018 لأنتهي منه في 28 يناير 2019 تجربة استغرقت مائة يوم، وبقدر ما كانت حافلة بالعصامية والمعاناة، أظنها كانت حافلة بنجاح وإنجاز.
وفي عام 2020 ومع انتشار وباء كورونا قررت مقاطعة القات مرة ثانية والتفرغ للكتابة، ومراجعة ما سبق أن كتبته في حلقات، ولم أتمرد عن القرار إلا ما يدخل في حكم النادر أو الاضطراري أو التمرد عند السأم والملل.. أما اليوم فإن مقاطعتي للقات تحاول المضي حثيثاً نحو العام، وربما النية تعقد عزمها في المضي بها إلى الأبد.